ينمو كثير من الأطفال في معظم أنحاء العالم - مع الأسف - في جو من العنف والإرهاب سواء النزاعات المسلحة أو حتى الكوارث الطبيعية كالزلازل وغيرها. ولا شك أن تدور في أذهانهم الكثير من الأسئلة الملحة عن أسباب النزاعات وطبيعة الكوارث وموقف الإنسان منها. ويمكن لهذه الأسئلة والأفكار أن تؤثر كثيراً على نمو الأطفال وفهمهم لأنفسهم وغيرهم والعالم من حولهم. ولا غرابة أن يسأل الأطفال في وقت الزلازل وغيرها أسئلة معقدة وصعبة. ويتعقد الموقف أكثر في هذا الوقت إذ تعج وسائل الإعلام صباح مساء بأخبار الإصابات والضحايا، مع نقل الصور الفورية، والأصح أن أقول أن وسائل الإعلام هذه تنقلنا وأولادنا إلى موقع الحدث أو الزلزال والموت. ومما يقلق الآباء والأمهات والمعلمين والمربين كيفية حماية صغارهم من التأثيرات الضارة لهذه الأحداث، فنجد الآباء يسألون عن الطريقة المثلى للتعامل مع الأطفال والصغار في هذه الظروف الصعبة، وعن المعلومات التي يفيد اطلاعهم عليها.
تختلف ردود أفعال الصغار لأخبار الكوارث، والصور المرافقة لها، بسبب عوامل كثيرة مثل عمر الطفل وشخصيته والتجارب التي مر بها في حياته، وعلاقته بمن حوله كالوالدين وغيرهما. وأكثر ما يزعج الأطفال الصغار قبل المرحلة المدرسية هي المناظر المرعبة والمؤلمة، وكذلك أصوات الصراخ والدوي المرافق للزلازل وتهدم المنازل والأبنية، وحتى سيارات الإسعاف والشرطة. وليس مستغرباً أن يخلط أطفال هذه السن بين الحقيقة وبين خيالاتهم، وبين تقديرهم لحجم الأخطار والأذى الذي قد يلحق بهم أو بغيرهم. ومن السهل أن تسيطر مشاعر الخوف والقلق على هؤلاء الأطفال، فيصعب عليهم إدراك حقيقة الأمر، أو إبعاد الأفكار المخيفة عن أذهانهم. وبينما يمكن لأطفال المرحلة الدراسية التفريق بين الحقيقة والخيال، إلا أنه يصعب عليهم في بعض الأوقات الفصل بينهما، فقد يخلط الطفل بين مشهد من فيلم مخيف وبين منظر من مناظر نشرات الأخبار، مما يدفعه إلى المبالغة في حقيقة الأخبار. وقد لا ينتبه الطفل إلى أن بعض المشاهد الإخبارية يعاد عرضها مرات ومرات حيث يظنّ أنها تتكرر من جديد. وبسبب وضوح الصور المنقولة حاليا بالوسائل العصرية المتطورة فقد يشعر الطفل أن الحدث قريب منه كثيراً وربما في الشارع الذي يسكنه أو البلدة القريبة منه. أما أطفال المرحلة الإعدادية وشباب الثانوية فنجدهم أكثر اهتماماً بالنقاشات الأخلاقية والدينية والسياسية أو الإنسانية المتعلقة بحالات الكوارث وطبيعة الاستجابة والإغاثة المتوفرة للضحايا والناجين. ويمكن لشخصية الطفل وطبيعته المزاجية أن تؤثر كذلك في تفاعله مع الحدث، فبعض الأطفال أكثر عرضة للخوف والقلق بسبب طبيعتهم النفسية، وبالتالي يحرك عندهم الخبر الخطِر مشاعر الخوف والاضطراب. ولا ننسى تفاوت الأطفال في طبيعة علاقتهم بطبيعة الكارثة أو الزلزال، فقد يكون لبعضهم أقارب أو أناس من نفس الجنسية أو الهوية أو الديانة ممن يقطنون مباشر في مكان الحدث أو الكارثة، ولا شك أن هؤلاء الأطفال أكثر عرضة للتأثر بالأحداث الدائرة. وقد يميل الأطفال الكبار إلى ربط أخبار الكارثة بأمورهم وظروفهم الشخصية وكأنها تتعلق بهم مباشرة. ومن أكثر ما يشغل ذهن الأطفال الصغار الخوف من الافتراق عن الوالدين، وطبيعة الجروح والإصابات والنوت والحياة، ومفهوم الخير والشر، وربما الابتلاء والخوف من العقاب. وقد يسأل الطفل الصغير فيما إذا كان سلوكه حسن أو سيء، معتقداً أن الحدث أو الزلزال إنما قد وقعت على الأطفال الذين يشاهدهم في الأخبار بسبب أن سلوكهم مع والديهم لم يكن حسناً، لذلك فالزلزال عقاب لهم! وبسبب اهتمام الأولاد الكبار بقضايا الأخلاق والدين والمبادئ فقد يعمدون إلى التأمل والتفكير في القضايا الفلسفية والأخلاقية العامة، وطبيعة الرحمة الإلهية والعقاب والابتلاء. ومن الأولاد من يأخذ الموقف المعاكس فيصبح غير مبال بما يرى أو يسمع من أخبار الكارثة والإصابات والضحايا. وقد يكون ذلك بسبب كثرة المعلومات والصور والأخبار التي تعرض على هؤلاء الأطفال مما يصيبهم بشيء من حسّ الخدر وضعف الحساسية لكثرة الأخبار ومقاطع الفيديو المصورة، وخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وبسبب ألعاب الأطفال الإلكترونية وغيرها فقد لا يشعر الطفل أنه أمام مناظر حقيقية، وضحايا، ودماء، وقتلى.
قد لا يكون من السهل معرفة ما يدور في ذهن الطفل عندما يكون تحت تأثير صدمة أخبار شديدة مزعجة، وقد يتردد الطفل في الحديث عن مخاوفه، خاصة أنه قد لا يكون قد انتبه إلى مدى تأثير الأخبار عليه. ويمكن للأطفال أن يشعروا بمخاوف متعددة وبشكل يخالف توقعات الأهل. فقد يخاف الطفل من ركوب الحافلة بعد أن رأى في الأخبار حافلة تقع تحت سقف متهاون، أو يخاف من الذهاب إلى المدرسة بعد أن شاهد مدرسة تعرضت للدمار بسبب الهزة الأرضية. ويمكن للآباء أن يتنبهوا إلى المؤشرات التي توحي بكيفية تعامل الطفل مع الأحداث وأخبار الكارثة، وليس بالضرورة أن يكون لعب الأطفال لألعاب العنف مؤشراً إلى مشكلة نفسية عندهم، فهذا أمر طبيعي عند الصغار، وخاصة الصبيان، وقد يزداد هذا النوع من اللعب وقت الأزمات، فيحاول الأطفال محاكاة ما يشاهدونه، أو التفكير بالانتقام، معتقدين بأنهم يساهمون في حل بعض النزاعات التي يرونها أمامهم.
ثمة معتقد خاطئ عند الناس مفاده أن الحديث عن الكارثة كالزلزال مع الأطفال من شأنه أن يزيد لديهم المخاوف والقلق، والعكس هو الصحيح، وإن كان الأمر يتوقف ولحد كبير على طريقة الحديث والحوار معهم. والأخطر من الحديث المباشر والصريح أن يحتفظ الطفل بمخاوفه الخاصة التي لا يتحدث عنها مع غيره. فحديث الكارثة أو الزلزال يملئ وسائل الإعلام، إلا أن أسرة الطفل تتجنب الحديث عنها مما يزيد مخاوف الطفل، معتقدا أن أهله يخفون عنه أمرا شديد الخطورة! وكما هو الحال مع المواضيع الأخرى في الحياة، يجب الانتباه للمراحل العمرية ولمرحلة نمو الطفل وفهمه واستيعابه. وبالرغم من أن الأطفال الصغار وحتى الذين في الرابعة أو الخامسة من العمر يمكن أن يدركوا طبيعة الكوارث كالزلازل، إلا أنه ليس كلهم بالضرورة يعرفون كيفية الحديث عما يشغلهم ويقلقهم. ولذلك قد يحتاج الأهل أحياناً أن يبدؤوا هم في الحوار مع أولادهم. ويمكن أن يبدأ الوالدان بسؤال الطفل عما يمكن أن يكون قد سمعه من أخبار، أو عن رأيه فيما يجري من أحداث. وعلى الأهل أن يمسكوا أنفسهم عن محاولات إلقاء المحاضرات على الأطفال حتى يتعرفوا أولاً على الأمور المهمة التي تشغل بالهم، فقد تكون تماما غير ما توقعه الأهل. ويمكن الاستفادة من بعض الظروف الطبيعية ومنها مثلاً عندما يشاهد الجميع نشرة الأخبار، أو عندما تحدث بعض الأمور كظهور النقاشات على شاشة التلفاز، أو عند حملات جمع التبرعات لصالح ضحايا الكارثة، فيمكن للأهل هنا أن يحاولوا الحديث والاستماع للطفل، والتعرف على أفكاره ومخاوفه بشكل بسيط وطبيعي، وفي هدوء ودون انفعال يقلق الطفل. وليس من الطبيعي أن يكون النقاش في هذه المواضيع المشحونة بالعواطف في جلسة واحدة، ولكن لا بد من زيارة الموضوع كلما دعت الحاجة. وقد تستجد بين الحين والآخر قضايا وتفاصيل جديدة تستدعي الحديث مجدداً، كزيادة عدد الضحايا التي انتشلت من تحت المباني المهدمة. ويمكن للأهل محاولة التوسع في فتح مواضيع أخرى وثيقة الصلة بما يجري كمواضيع تكوين الكرة الأرضية، واحتكاك الطبقات المختلفة التي تسبب الزلازل والبراكين. وقد يتطلب الأمر في بعض الحالات التعرض لمعلومات جغرافية عن منطقة معينة لها صلة بالزلزال، أو بعض المعلومات التاريخية، أو ثقافة وتقاليد مجموعات من الناس أو الشعوب أو الدول، وطبيعة العمران في بعض البلاد المعروفة بأنها أرض زلازل. ولا بأس من محاولة ربط طبيعة الكوارث بتعاون الدول في حملات الإغاثة ومدّ يد المساعدة بين الشعوب، وخاصة في البلد الذي يعيش فيه الطفل، أو طبيعة الكوارث الطبيعية المختلفة في بعض بلاد العالم. وعلى الأهل احترام رغبة الطفل إن لم يُرد الحديث في الموضوع في بعض الأوقات عندما لا يكون مرتاحاً للأمر. وعلى الأبوين الانتباه لبعض المؤشرات الكلامية وغير الكلامية التي ترافق حديث الأولاد، ومنها:
ومن المفيد التحلي بالحوار الصريح والمنفتح، دون أن يقدم الأهل آراءهم على أنها حقائق مطلقة، وإنما أن يتيح الحوار فرصة لاختلاف الآراء والتعبير عنها. إن إشعار الطفل بخطأ أفكاره أو مشاعره قد يدفعه لينسحب من الحوار والنقاش، أو قد يُشعره بأنه طفل سيء أو أنه لا يحسن التصرف، أو بأنه طفل غير طبيعي.
من المفيد جداً أن يظهر الأهل للطفل بأنهم يدركون مشاعره، وعليهم تجنب التقليل من قيمة هذه المشاعر فإن هذا كالانتقاد الذي يُشعر الطفل بالحرج. إن من شأن الحديث عن العواطف والمشاعر أنه يخفف من شعور الطفل بالقلق والخوف. ويمكن للوالدين تطمين الطفل بتقديم ما توفر من معلومات وحقائق عن حماية الناس ومنهم الأطفال، كوجود رجال الإسعاف والشرطة، وكذلك ما يمكن أن يقوم به الطفل في حال شعر بالخوف، كأن يتحدث مع أحد الكبار مثل والديه. وليحاول الأبوان تجنب وضع الاحتمالات والافتراضات أمام الطفل، والأفضل منه تقديم المعلومات الحقيقية، ولكن ببساطة ووضوح. ومن الأمور المهمة إدخال الطمأنينة في نفس الطفل والأسرة جميعاً عن طريق الحفاظ، قدر الإمكان، على روتين ونمط الأسرة في تفاصيل حياتها اليومية، فهذا يعيد للطفل شيئاً من الشعور بالأمن السابق للكارثة، ويمكن تحقيق هذا عن طريق اشتراك أفراد الأسرة في أداء الأعمال اليومية البسيطة، كتناول وجبات الطعام معا، والنوم المشترك في وقت متقارب، والصلاة جماعة، والذهاب إلى المدرسة، فكل هذه الأعمال الروتينية اليومية الطبيعية تعطي الطفل شعوراً قويا بأن العالم من حوله في أمان، وبأنه يسير بشكل آمن طبيعي كالمعتاد. وإذا كان أحد أفراد أسرة الطفل أو قريب له في منطقة الكارثة، فإن ذلك قد يعرضه إلى المزيد من القلق أو الخوف. ومما يفيد هذا الطفل معرفة معلومات حقيقية عن هذا القريب وظروف حياته في مكان الحرب، والاطمئنان أنه بخير وعافية. ويفضل أن يتواصل الطفل بقريبه بالهاتف أو بالمراسلة. ولا شك أن مما يعين كثيرا هو اجتماع الطفل بالآخرين الذين يعيشون ظروفاً مثل ظروفه، فهذا يخفف عن الجميع، من خلال المشاركة بالمعلومات والتجربة والمشاعر. ومن الأمور المطمئنة للأطفال أن يروا الكبار من حولهم يشعرون بالأمن والاطمئنان، وبتلقي الدعم النفسي والمؤازرة من قبل هؤلاء الكبار. ولا شك أن هذه فرصة مناسبة لشرح مفهوم التوكل على الله مع اتخاذ الأسباب، وأن المسلم في النهاية يشعر بالأمن بيقينه بأنه "لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".